هل يعود قيس سعيد إلى ليلة 25 جويلية؟ 

ما أعلنه السيد قيس سعيد ليلة 25 جويلية 2021 كان من المفروض أن يعتبر فرصة للقطع مع منظومة تمنع تونس من التقدم التي تنعم به كل الديمقراطيات. 
 
كانت وضعية حكم العصابات تنذر بالاستمرار لعقود، ولم يكن هناك في المشهد ما يوحي بقرب تغييرها في انتخابات مقبلة، ولم تكن هذه المنظومة لتسمح بأي تطوير  للبلاد بإبقائها على مناخ عام متعفن ومناخ أعمال لا يسمح بجلب الاستثمارات ولا بخلق الثروات، بقدر ما تشجع على تهريب الأموال إلى الخارج وهجرة الكفاءات وتشجع على ازدهار السوق السوداء، كل ذلك لتبقى أحزاب في السلطة ولتتنافس بينها على الأموال الفاسدة الآتية من الداخل والخارج.
 
كان الهدف المنشود من إقدام السيد قيس سعيد على إعلان الحالة الاستثنائية طبق الدستور  هو تسريع عمليات التلقيح التي عطلها الصراع داخل السلطة واللامبالاة، وضرب منظومة الفساد السياسي   التي عجزت أمامها مؤسسات الدولة، عبر تحرير الداخلية من قبضة أحزاب فاسدة ومراكز نفوذ وتحريك هياكل وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء لتطهير القضاء ممن ثبت فساده بالدليل وممن أثروا إثراء غير شرعي وممن خدم أحزابا على حساب الدولة وعلى حساب سمعة سلطة القضاء، وفتح ملفات الفساد الكبرى التي لم تحل إلى القضاء بعد وتحريك الملفات المجمدة في مكاتب النيابة العمومية والتحقيق.
 
لم يكن المقصود إلا ضربات قوية  موجعة لمنظومة الفساد السياسي وإيقافات لمن لم يكونوا يعاملون من القضاء كمواطنين عاديين والبدء بقيادات سياسية ونواب وبعض أصحاب الثروات المحميين من سياسيين، وعند الاقتضاء اللجوء إلى الإقامة الجبرية لمن يشكلون خطرا على مسار  حملة مقاومة الفساد.
 
ماذا فعل السيد قيس سعيد؟ 
 
توقف عند إجراءات بسيطة لا ترقى إلى مستوى صلاحياته الاستثنائية الكبرى المستمدة من الفصل 80 من الدستور، وبدأ بإجراءات لا علاقة لها  بمقاومة الفساد، تشوبها شبهة اللاقانونية بإحالة ملفات إلى القضاء العسكري في حين أن القضاء العدلي هو المختص بها، ثم بدأ  يلقي بالتهم على جهات أخرى في الدولة وغيرها فيما يعد تعلات لعدم السير في فتح ملفات الفساد السياسي الكبرى، في حين أن فلسفة الفصل 80 المذكور  تقوم على السرعة في اتخاذ التدابير الضرورية لعودة السير العادي لدواليب الدولة، وفي حين أن إعلان الحالة الاستثنائية قد تأسس على تعطل السير العادي لبعض مؤسسات الدولة في علاقة بعدم قدرتها على فرض القانون، ولا يعقل أن نبقى في هذه الوضعية  لثلاثة أشهر دون إجراءات تذكر.
 
انتقل السيد قيس سعيد إثر ذلك إلى التمهيد ثم إلى إعلان أنه يجب تعديل النصوص المنظمة للحياة السياسية ومنها الدستور  لعرض ما يتوصل إليه مع لجنته على استفتاء شعبي، ضاربا بالدستور وبما نص عليه من إجراءات لتعديله عرض الحائط، ساعيا لتهيئة الشارع لتقبل فكرة مخادعة مفادها أن مشكلة البلاد تكمن في الدستور الحالي لا في طبقة سياسية كانت تعبث في ظل إفلات من العقاب، كان عليه وضع حد له وتهيئة البلاد لانتخابات تشريعية تجرى في كنف القانون دون شراء ذمم ودون تمويلات فاسدة. 
 
صرح أحد زملاء السيد قيس سعيد السابقين في الكلية في إحدى الإذاعات بما يلي: " لم نعد نعرفه"! من الواضح للمتابعين أن سلوك  الرجل قد  تغير تماما بعد 25  جويلية وزاد تغيرا قبل إعلان نصه المسمى الأمر عدد 117  بأيام وبعده.
 
يبدو أن الرجل لم يفهم أن احترام الناس للرئيس يقوم على أساس احترام الدولة وهيبتها المستمدة من القوة الشرعية ومن وظيفتها في حماية كيانها وحماية الناس وأمنهم وخدمة مصالحهم، وأن هذا الاحترام الذي كان السيد سعيد يحظى به بشكل كبير مرتبط بتصور لوطنيته وأخلاقه ونزاهته التي لم تكن سمات أغلبية من حكم البلاد بعد الثورة ولا من سمات خصومه، ولم يكن يستند لأدائه لوظيفته على أحسن وجه ولا لإنجازات تذكر له. 
 
خسر السيد قيس السعيد نقطة قوته الأولى وهي الشرعية التي  تضمن الاستقرار في أي دولة وتضمن قوته كرئيس يستمد سلطته من الدستور، وخسر مصداقيته بالحنث في يمينه على احترام الدستور وفي انقلابه على ما استبشر به الناس ليلة 25 جويلية، أي مشروع تفكيك منظومة الفساد وفرض القوانين على الجميع، ليشرع في تحطيم مشروع دولة القانون والمؤسسات باديا بتحقير دستور البلاد.
 
اعتبر  السيد سعيد علنا  أن خصومه ينقسمون بين فاسدين ومتآمرين ولم يبخل على  من دعموه يوم 25 جويلية وقبله مع معارضة مشروعه المتمثل في ضرب دستور البلاد لتحقيق ما لا يمكن وصفه إلا بطموح شخصي أناني، فوصفهم بأنهم كانوا يطمعون في مناصب وانقلبوا عليه لما يئسوا من الظفر بها، أي أنه وصفهم بالانتهازية، وقد يكون البعض كذلك أي سعوا في وقت ما للتقرب منه، وانقلبوا عليه خاصة من بين من لهم نفس سيرته السياسية وربما نفس طموحاته، ولكن وصفه وإشاراته امتدت إلى من كان يتجنب أي تقرب منه، معلنا في كل مناسبة أنه يدعمه لكونه الأمل في إحداث تغيير بحكم موقعه وأنه لا علاقة تجمعه به، ليراهن السيد سعيد على الخلط وليلقي بالجميع لنهش ذباب رئاسي تجاوزت  وقاحته وقاحة ذباب النهضة انحدارا وإسفافا، وليفقد كل من عارضه مصداقيته. كان تشويها متعمدا  لم يعرف عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه الذي يدعي السيد سعيد اقتداء به ولم يعرف حتى في قيم الفتى في  الجاهلية!
 
ما الذي جعل الرجل ينقلب ثم يتمادى في الخطأ ثم يسلك سلوكا أصبح ينذر  بضرب مصالح الدولة وتقسيمها داخليا وعزلتها خارجيا فيما لا يمكن أن تكون منه أي فائدة غير إثارة بعض الإعجاب لدى جزء  من الشعب لا يدرك أن هذه البلاد تحتاج سياحا ومستثمرين وأصدقاء في كل مكان وصورة جيدة عن دولة قانون وأمن واستقرار وانفتاح وإصلاح مستمر يضمن لتونس مكانة بين الأمم المتحضرة ويخدم مصالحها ويحمي سيادتها فعلا لا شعارات؟ 
 
ما الذي جعل الرجل يتهجم على رئيس جمهورية سابق ويجرؤ على اتهامه بالخيانة ويزايد عليه في الوطنية ويطلب محاكمته من أجل فعل أراد المخلوع التصدي له فاستصدر له قانونا سنة 2010 ألغته الثورة بعد سنة، ولم يجرؤ على تطبيقه على خصومه قبل أن يهرب، رغم مواصلتهم فضحه في الخارج والداخل؟
 
هل فعلا يعتقد السيد سعيد أنه الدولة؟ ألم يفهم بعد أن كثيرا من الناس احترموه لنزاهة توسموها فيه رغم أنه في الواقع لم يمر ما يكفي من الوقت لاختبار صلابتها في الممارسة؟
 
بدأ الرجل يتصرف وكأنه نبي رغم أنه لم يأت بمعجزة،  ويرى نفسه أكثر وطنية من غيره، رغم أنه لم يثبت ذلك بعد،  بدأ يقدم نفسه وكأنه الأكثر  حبا للوطن وللشعب من غيره، رغم  أن شعبويته كانت بالدليل تهدف إلى كسب جزء من شعب مل فساد منظومة الحكم، ليحقق  مشروعا شخصيا، في حين أن حب السياسي لشعبه يعني خدمته لا استغلاله لتحقيق الطموح الشخصي.
 
السيد سعيد عليه أن يتواضع وأن يتأمل في أخطائه ومنها فقط على سبيل الذكر  تعريضه البلاد لخطر  كبير  وتعمده استغلال عاطفة جزء من الشعب لمغالطته. 
 
نص أمر السيد سعيد عدد 117 على أنه في صورة شغور في منصبه يعوضه رئيس الحكومة، وصدر أمره هذا يوم 22 سبتمبر 2021 ولم يصبح للبلاد رئيس حكومة إلا يوم 11 أكتوبر، فهل فكر أطال الله في عمره وعمر الجميع في مصير البلاد لو حصل له مكروه في تلك الفترة وفي كيفية حسم الصراع بين من سيتمسك   بالدستور وبكون رئيس البرلمان يتولى المنصب حتى إجراء انتخابات ومن سيتمسك بأن الأمر  117 شرعي ولا حل فيه لسد الشغور في منصب الرئيس خاصة مع رفض أغلبية ظاهرة لتولي السيد الغنوشي الذي رفض الاستقالة من منصبه بعد 25 جويلية، والذي  يصلح مع السيد قيس سعيد رمزا لأنانية الطبقة السياسية القديمة منها والجديدة وجب أن يدونه التاريخ.
 
هل كان ينام مطمئنا لو عرض أبناءه لخطر  ليلة واحدة؟ لا، ولكنه مستعد لتعريض شعب كامل لخطر الفوضى وربما الاقتتال، تماما كتخطيطه لنظام دستوري تكون فيه للرئيس صلاحيات واسعة غير مبال بما قد تتعرض له الديمقراطية الوليدة من مخاطر  اختيار  شخص خطير  بعد انتهاء عهدته هو،  قبل أن يشتد عودها.
 
أعلن السيد سعيد في "أمره" أن البرلمان خطر داهم وخرج على الناس يستعرض صور عنف تم في رحابه متسائلا " ألا يذكرون ؟" دغدغة منه للمشاعر والانفعالات، في حين أن الخطر الداهم يتعلق بمؤسسات انحرفت وفسدت ومنها البرلمان الذي سن فعلا بعض القوانين الفاسدة وحمى فعلا بعض نوابه من المحاسبة وانتصب فعلا حارسا لمنظومة الفساد من أي حكومة قد تسعى لتهديدها، ولكن موضوع العنف في البرلمان كان مقدورا عليه حتى دون اللجوء إلى الحالة الاستثنائية بمجرد تكليف الجهاز الأمني التابع له مباشرة والمكلف بأمن البرلمان بالتصدي له وفي نفس الوقت بمنع أي تعطيل لنشاطه والتنسيق مع النيابة العمومية لإجراء التتبعات ضد من عنف ومن عطل ومن أصدر القوانين الفاسدة بمقابل، وله وسائله للضغط على النيابة لتقوم بواجبها، لكنه لم يفعل وحتى بعد 25 جويلية لم تقع إحالة النواب المورطين في الفساد على القضاء باستثناء اثنين فقط. 
 
مازالت أمام السيد سعيد فرصة ليعود رئيسا محبوبا، وليكون رئيسا شرعيا وربما ليدخل التاريخ أيضا: 
 
- يعلن عن أجل لإنهاء الحالة الاستثنائية لا يمكن أن يتجاوز السنة الحالية،
- يحيل إلى النيابة العمومية ملفات فساد السياسيين وأصحاب المؤسسات الذين كانوا محميين من سياسيين،
- يأذن بالبحث في ممتلكات كل السياسيين والقضاة ويحيل ملفات من لم يستطع تبرير  ممتلكاته إلى النيابة العمومية، وفيما يخص القضاة يحيل ملفاتهم أيضا إلى المجلس الأعلى للقضاء، 
- يتوقف هو وفريقه عن السعي إلى توجيه الإعلام، ويفتح ملف تمويل الإعلام المشبوه الآتي من الداخل والخارج، وينفذ قرارات الهايكا دون تمييز ودون شخصنة كما فعل مع قناة الزيتونة ولم يفعل مع غيرها، ويتابع ملف ملكية أحزاب لمؤسسات سمعية بصرية، وتمويلها لصفحات عل  الشبكة الاجتماعية تمكنت لسنوات من تدمير العقول،
- يتوقف عن تبرير  عدم  فتح ملفات الفساد أو عدم نجاحه في تحقيق ما وعد به بمؤامرات من الغير، فما منحه الفصل 80  كاف لضرب منظومة الفساد وفرض القوانين على من كانوا لا يخضعون إليها، وفي مؤسسات الدولة شرفاء  يساندونه لو تيقنوا من جديته،
- يعلن أن مشروعه الخاص المتعلق بتغيير النظام السياسي، سيعرض على مجلس نواب الشعب الجديد بعد حل المجلس الحالي طبق الدستور، وأنه لن يستغل الحالة الاستثنائية لوضع قوانين جديدة  تنظم الحياة السياسية، وإنما لفرض تطبيق القوانين الموجودة، حتى تكون الانتخابات نزيهة وشفافة،
- يترك الحكومة الحالية تعمل لإنقاذ المالية العمومية وكل ما يمكن إنقاذه أو التخفيف منه وتمرير الإصلاحات الضرورية  في انتظار تشكيل حكومة والمصادقة عليها بعد الانتخابات  التشريعية المقبلة، ولا يترك حسابات شعبيته المنشودة تؤثر في قراراتها، وعلى أن تعمل كل الأطراف السياسية على دعمها،
- يتوقف عن المغالطة في موضوع السيادة التي لا تستطيع بلادنا الفاقدة لهذه السيادة منذ القرن التاسع عشر أن تدعيها قبل أن تؤسس لدولة قانون وحقوق إنسان ولسياسة قوامها الحوكمة والابتعاد عن الشعبوية وتحرير الدولة من الفساد المحمي من السلط الثلاث فيها، دولة مستقرة وذات قوانين وممارسات جالبة للاستثمارات خالقة للثروة.
- يفهم  أن الإصرار على خرق دستور البلاد لفرض مشروعه وإطالة الحالة الاستثنائية دون عمل جدي لتحقيق الغاية منه يجعله رئيسا غير شرعي، سيعمل كل وطني على إسقاطه وسيضطر  ساعتها للقمع، وهذا القمع لم يسبق أن قام به مستبد بيده لشجاعته الفائقة، بل يعول فيه المستبدون  على مؤسسات حاملة للسلاح، وعلى بعض القضاة غير المستقلين، والأجهزة الحاملة للسلاح فيها أناس وطنيون أقسموا على حماية الوطن، وتعلموا منذ الثورة أن يكونوا في خدمة الدولة، لا في خدمة الطموح الشخصي لأي كان ولا في خدمة العبث بتونس، وأنهم في وقت ما سيكون عليهم واجب رفض تطبيق تعليمات القمع من نظام غير شرعي.   
 
سيسهل ذلك انتباه الناس وأولهم الداعمين له، عاجلا أم آجلا، حتى وإن لم تكن تعنيهم الشرعية، لتبعات سياسته وانقلابه على ما أعلنه ليلة 25 جويلية، هذه التبعات التي ستكون سيئة جدا حتى لو وقع  تأجيل الكارثة بقروض أو ودائع لن تكون أبدا كافية في بلاد تعيش عدم استقرار وفوضى وعدم وضوح المستقبل، هذا بقطع النظر عن مساسها المتوقع بالسيادة، ولو تم  ادعاء العكس.

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *