من سمات الأنظمة الاستبدادية التي لا تعترف بدولة القانون والمؤسسات، والتي يطغى فيها مناخ الخوف، أن يكفي فيها صدور الأمر من جهة رسمية ليقع تنفيذه دون نقاش بقطع النظر عن شرعيته وعن فداحة تنفيذه على حقوق المواطنين وحياتهم وحرمتهم الجسدية وكرامتهم وحريتهم وعلى مصلحة الدولة.
يسعى كثير من الموظفين للحفاظ على مصالحهم، فينفذ البعض مخيرا سلامته الشخصية وسلامة عائلته على سلامة بني وطنه، وينفذ البعض طمعا في استرضاء صاحب القرار والتقرب منه.
كانت الثورة فرصة للقطع مع قرون من الاستبداد ومن جرائم السلطة في حق المواطنين. لم تنجح العدالة الانتقالية وفقا للبرنامج المسطر في قانونها، ولكن سمحت المحاكمات المتعلقة بقتل الثوار وبعض المحاكمات المتعلقة بانتهاك حقوق الإنسان والمحاكمات المتعلقة بجرائم الأموال العامة التي تنسب إلى أشخاص يتمسكون بتلقيهم أوامر من القصر أو من بعض الوزراء، سمحت بفتح نقاش عام حول مسؤولية المرؤوس الجزائية عن تنفيذه لأوامر رئيسه، غير الشرعية.
صدرت في أكتوبر 2014 بمقتضى أمر مدونة سلوك للعون العمومي، ونصت في
علاقة العون العمومي برؤسائه على أن عليه
أن يحرص على احترام رؤسائه دون سعي لاسترضائهم لكسب أي معاملة تفضيلية، والامتثال لتعليمات رئيسه المباشر وتنفيذها.
فإذا كانت تلك التعليمات مخالفة بداهة للقانون، فعلى العون إعلام رئيسه كتابيا بهذا الخرق ولا يلزم بتنفيذ هذه التعليمات إلا إذا أكدها الرئيس المباشر كتابيا، وعلى مسؤوليته.
ويتوجب على العون العمومي في كل الحالات رفض تنفيذ التعليمات التي تشكل جريمة يعاقب عليها.
وسبق هذه المدونة التي يرى البعض أنها لا تنطبق على الأسلاك النشيطة، الفصل 41 من المجلة الجزائية الذي يعتبر منذ سنة 1913 أن طاعة المجرم بسبب شدة تعظيمه لمن يأمره بارتكاب جريمة لا تنجر له منها صفة الجبر، أي أنه لا يمكن أن يستند إلى خوفه من رئيسه لتبرير ارتكابه جريمة بتعليمات منه.
رغم استمرار تورط بعض الموظفين بعد الثورة في تنفيذ أوامر بديهية اللاشرعية، فإن كثيرا من موظفي الدولة، أصبحوا لا يتوانون عن نقاش رؤساهم عند صدور التعليمات بما يخالف القانون، ورفضها عند الاقتضاء، وهذا تطور جيد.
حصل بعد الثورة أن أصيب أحد الوزراء بمرض مس بذاكرته، وبتفطن إطارات وزارته للمسألة مارسوا عليه رقابة حتى لا يمضي وثائق تضر بالدولة، ورغم ذلك أمضى في غيابهم وثيقة التزم فيها باسم الدولة التزاما يكلفها أعباء لا تقدر عليها، ما جعل الحكومة التي خلفت حكومته تمتنع عن الوفاء بالتزامه الذي أمضاه.
إحدى الأجهزة الأمنية امتنعت عن تقديم تقارير لرئيسها في مرحلة ما، بعد الثورة، لما اكتشفت أن معلومة سرية قد تسربت من مكتبه من موظف مدني بالديوان.
حصل في جهاز الأمن في كثير من الحالات رفض تعليمات غير شرعية، بل تجاوز الأمر ذلك إلى اتخاذ مواقف علنية من تسييس عمل الأمن، من ذلك أن إحدى النقابات عبرت في بيان لها عن معارضتها لاستعمال الأمن في معارك السياسة سنة 2016 لما أرادت السلطة منع المظاهرات ضد مشروع قانون المصالحة.
ليس هذا حال كل موظفي الدولة طبعا، وإلا لما كنا في حاجة لإجراءات 25 جويلية، ولكنها نقاط مضيئة في مسار الثورة. ولا يجب أن ننسى هنا دور بعض الأمنيين في هروب الطاغية يوم 14 جانفي وهو دور بطولي حقيقي رغم تشكيك البعض، في كل شيء جميل في إطار رياضتنا التونسية المفضلة.
ما زلنا بعيدين عن ثقافة الاحتكام للدستور والقانون بالشكل الذي نتمناه لشعبنا ولمؤسسات الدولة بعد الثورة، ولكن يمكن أن نبني على القليل المشرف، لفرض القانون على الحاكم لما يخرج عن الدستور والقانون، أو لما يصبح سلوكه مثيرا للريبة أو لتساؤلات مشروعة عن قدرته على اتخاذ القرارات المرتبطة بوظيفته.
في الولايات المتحدة، وفي فترة بدأت تظهر فيها على الرئيس معاناة من مشاكل نفسية، اتصل رئيس الأركان بالقيادة المكلفة بالسلاح النووي ليطلب منها مراجعته لو أسدى الرئيس أي تعليمات لها، بل إنه حسب تحقيق صحفي اتصل بقيادة الجيش الصيني لتطمينها لكونه لا خوف من احتمال عمل عدواني من قبل بلاده، ليصرح مؤخرا بأنه استشار قيادات أخرى قبل هذا الاتصال.
في نفس الفترة وعلى إثر المظاهرات وأعمال العنف التي تبعت قتل مواطن أمريكي أسود من قبل شرطي، صرح ترامب بأنه قد يلجأ إل الجيش لحفظ النظام، ولم يمنع هذا وزير الدفاع وهو في منصبه السياسي من أن يصرح أمام الكونغرس بأن القانون الذي استند إليه الرئيس لا ينطبق في صورة الحال، وليصرح رئيس الأركان السابق بأن الشعب ليس هو العدو.
ذكر لي أحد وزراء الدفاع أنه علم من كبار قادة الجيش الذين عملوا مع بن علي أنهم كانوا يبدون له رأيهم في قانونية بعض المسائل التي يطلبها وأنه كان يعمل برأيهم وبقول لهم أنه يلتزم بالقانون. هذا الطاغية، الذي لم يعرف عنه إيمان بالقانون، كان يفهم أنه لا يجب العبث بمؤسسة حساسة كالجيش واللعب بالنار خشية أن يحترق بها، ويأتي السيد قيس سعيد ومهنته الأصلية أستاذ قانون بعد ثورة جاءت للقطع مع الاستبداد، سبقتها دماء ويتامى وثكالى وعذابات وتضحيات قدمتها أجيال من التونسيين، ليورط جيشا تحسدنا على حياده واستقامته كل الشعوب في محيطنا، وتقر له كل الدول الصديقة قبل الثورة وبعدها بحياده، ليجعله شريكا له في جريمة انقلاب على دستور البلاد! ثم ليورط أمنا قطع أشواطا مهمة نحو هدف التحول إلى أمن جمهوري،
ناسيا ما صرح به منذ سنوات، وهو أن الدستور لا يمكن إلغاؤه إلا بثورة أو انقلاب، وأن يوم 25 جويلية حصلت فيه تحركات ضد منظومة الفساد، لا ثورة، وأن عزمه الذي لم يخفه لا يمكن بشهادته السابقة أن يكون إلا انقلابا.
إجراءات 25 جويلية كانت مطلبا شرعيا تأخر عنه السيد قيس سعيد، ثم انحرف عنه نحو مشروع شخصي معولا على ثقافة ضاربة في التاريخ ومنتشرة في المجتمع، مستهينا بدستور البلاد البريء من كل الجرائم التي ارتكبت في خرق له لا بسببه. الجيش والأمن استجابوا لقرار الرئيس بإعلان الحالة الاستثنائية، وهذا أمر لم يكن لهم أن يرفضوه لصدوره عن سلطة شرعية لها وحدها اتخاذه ولها وحدها تأويله، أما إعلانه مساء الأمس عن كون الدستور لم يعد صالحا فهو لو مر للتنفيذ انقلاب مكتمل الأركان.
نداء للسيد قيس سعيد، لا نرى من مصلحة البلاد سقوطك، شخصيا لا أثق في حسن اختيار شعبنا لمن سيخلفك، وأرى أن ذلك سيعيد منظومة الفساد بأكثر شراسة بقطع النظر عن الجهات أو الأحزاب التي ستكون مؤثرة لأسباب يطول شرحها.
لا نريد أن تدفع بلادنا ثمنا غاليا لمغامرة تريد خوضها، نريدك رئيسا يحترم دستور البلاد ويسهر على فرضه لهذا كانت إجراءات 25 جويلية، نريدك أن تعود رئيسنا الشرعي الذي وصفناه كثيرا بأنه النزيه وسط عصابة المفسدين، فأخجلتنا بما فعلت، عد إلى خطاب العقل واكمل مهمة 25 جويلية في أجل قصير واختمها، أمام تونس فرصة للتحرر من وضع حكم الفساد ولتنطلق نحو مسار شاق نحو التقدم.
إعلانك رسميا لا قدر الله عن مسار لإلغاء الدستور أو تعديله في المرحلة الاستثنائية سيكون بداية لمعركة ستضطر فيها لتحريك أجهزة الدولة للقمع، ولا تغتر بالدعم الشعبي قلنا لك منذ البداية أن الشعب هو الغاية من كل إصلاح ولكن لا تعول على دعمه كثيرا.
وضع البلاد الاقتصادي والمالي يسير نحو الكارثة، موروث صعب زاده العبث السياسي في الأشهر الأخيرة قتامة، والشعب قد يتفطن متأخرا للكارثة ولكنه سيتفطن حتما، وأجهزة الدولة قد يتورط بعضها خوفا أو طمعا في البداية ولكنها لن تسايرك طويلا.
تونس أبهرت العالم بثورتها، وجئت أنت لتطهير الديمقراطية بفرض القوانين الموجودة لا للاستهانة بها.
الشعوب التي تستحق حياة أفضل تتعلم من تجارب غيرها وممن سبقها في الديمقراطية والتقدم.
لا سبيل للتقدم دون قانون يطبق مهما كانت التكلفة، على المحكوم وعلى الحاكم، بعد ذلك فالعقل التونسي وكفاءات البلاد ومهاراتها الموجودة في الدولة والجامعة والقطاع الخاص والأحزاب والجمعيات والمنظمات وفي كل المجالات، ستتكفل بإنجاح مسار التقدم الطويل والشاق ومضمون النتائج، إذا تحررنا طبعا من غياب دولة القانون ومن الفساد ومن الشعبوية.
اللهم اهده إلى سواء السبيل.
لا تعليق