هل يمكن إنهاء الدكتاتورية بانتخابات رئاسية ؟ هل يمكن أن تتكرر تجربة الشيلي سنة 1988 التي أنهت الديكتاتورية؟

بعد تصريح رئيس هيئة الانتخابات حول الرئاسية وموعدها  المفترض بين سبتمبر وأكتوبر  من السنة الجارية، تحدث السيد قيس سعيد منذ يومين عن كون الانتخابات الرئاسية ستتم في موعدها، وتخلى هذه المرة عن شرطه بأن لا تسلم السلطة إلى "غير الوطنيين"، دون أن يمنعه ذلك من التشكيك في طمع الكثيرين في الرئاسة مقابل زهده المفترض فيها.
طبعا الثقة في السيد قيس سعيد انتفت بما فعله  بتونس من تحويل إجراءات استثنائية ومؤقتة  كانت ضرورية لإنهاء حكم الجريمة، إلى مكسب استمتع فيه خارج الشرعية بمسك كل السلط لتحقيق  مشاريع  لا تعني غيره، وكانت نتائجها بدل تخليص الديمقراطية من فسادها وجعلها تقترن بالقانون تحطيم الديمقراطية ومشروع دولة القانون وتحويل القضاء إلى جهاز  خاضع له والإضرار بالاقتصاد.
 
من هذا المنطلق أفهم تخوف البعض من تلاعب السيد قيس سعيد بالعبارات أمام عدم إعلانه صراحة على كون المقصود بالتاريخ هو السنة الحالية، ولكن لا أتفهم لماذا يصر بعضنا على اعتبار أن الفاعل الوحيد في البلاد هو السيد قيس سعيد، لماذا لا تكون الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والنقابات والإعلاميون  وكل القوى الحية في البلاد فاعلين أساسيين أيضا؟ 
 
 لم نقرأ في كتب التاريخ أن قيسا قد اشترى هذه الرقعة الجغرافية التي ولدنا فيها  ونريد أن نحيا ونموت فيها وأسس فيها دولة وبعث فيها إدارة وجيشا وأمنا، فلم القبول بالأدوار الثانوية وبوضع الرعايا في بلادنا؟
 
في غياب حلول أخرى، يجب أن تُجرى هذه الانتخابات هذه السنة.
 ويجب ألا يقع المساس بالقانون الانتخابي، هيئة الانتخابات نفسها تقر بإمكانية الاكتفاء بتنقيح قرار لها  تغيّر بموجبه شرط السن الدنيا ( 40 سنة) وشرط عدم حمل جنسية غير الجنسية التونسية للترشح  للانتخابات الرئاسية وشرط الجنسية التونسية للأب والأم والجدين وشرط التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، كما اشترط الفصل 89 من "دستور" 2022. 
أي تعديل للقانون الانتخابي قد يُستغل لوضع شروط على القياس، كمنع من هو محل تتبع من الترشح. من هو محل تتبع يمكن إعلام الناخبين بذلك وبملابسات قضيته، لا منعه من الترشح. لنترك القرار للناخب، لا لقضاء غير مؤهل الآن لاتخاذ قرارات يمكن الثقة فيها. 
 
بالإضافة إلى ذلك، فإن الجميع يعرف أن القضاة اتخذوا قراراتهم وأصدروا أحكامهم تحت مفعول الخوف من الانتقام وبالتالي يجب أن يتوقف السيد قيس سعيد عن استعمال آلية الإيقاف عن العمل والإعفاء في حق القضاة، وأن تكون آخر تعليماته لهم أطلقوا سراح من لا  قرائن قوية وجدية تستلزم إيقافهم ولا تخشوا إعفاء ولا انتقاما من أي كان.
 انتخابات باستعمال الاعتقالات السياسية للخصوم  لا يمكن أن تعد انتخابات تعطي شرعية لمن تم انتخابه.
 
من ناحية أخرى، لقد كان اللوم على الديمقراطية التونسية منذ ولادتها سنة 2011 استعمال المال السياسي الآتي من الخارج أو من الفاسدين في الداخل لشراء الذمم والسيطرة على الرأي العام، وعليه يكون على السيدين المدير العام للأمن الوطني وآمر الحرس الوطني والسادة وكلاء الجمهورية أن يلتزموا الحياد ويفرضوه على منظوريهم بين كافة القوى السياسية والمرشحين وأنصارهم، ومنهم السيد قيس سعيد الذي يمكن اعتباره من الآن مرشحا مفترضا كغيره.
هناك صفحات وحسابات على مختلف الشبكات الاجتماعية يسيرها محترفون يقومون بالدمغجة والدعاية، بعضها ضد قيس سعيد وبعضها معه، ورائحة التمويل المشبوه لا تخطئها  الأنوف، يجب البحث حولها عما يشكل جرائم، وعن مموليها، حتى يتنافس الأشخاص والبرامج، لا القدرات المالية المتأتية من الفساد.
 
هناك نقاش في موضوع المشاركة في الانتخابات الرئاسية، وهناك من يرفضها باعتبارها ستجرى في ظل "دستور 2022" الذي جاء في إطار انقلاب على الشرعية، أو  لقناعة بكون قيس سعيد سيستعمل كل الوسائل بما فيها أجهزة الدولة للبقاء في السلطة بانتخابات أو  دونها.
 
نفس النقاش تقريبا  طُرح في الشيلي سنة 1988 لما وجد بينوشيه نفسه مضطرا لأسباب عديدة  لتطبيق دستور وُضع سنة 1981  يقضي بأن يتم اختيار المرشح للرئاسية من هيئة من قيادة الجيش ويتم عرض ترشيحه على استفتاء شعبي.
وضع القمع في الشيلي وقتها لا يقارن في شدته ودمويته بأي حال بنظام قيس سعيد ولا حتى بنظام بن علي، ورغم ذلك تجندت القوى السياسية لتحريك حملة مشاركة في الاستفتاء بالتصويت بلا، وتحملت القمع وفاز فريق التصويت بلا ضد رئاسة بينوشيه بنسبة 56 بالمائة، وتلت ذلك تطورات خاصة بهم انتهت بانتخابات رئاسية وبفوز مرشح معارض لبينوشي وتسليم بينوشيه السلطة للرئيس الجديد.
 
لم يكن قرار المشاركة مأمون العواقب، حيث كان يمكن لبينوشيه لو وجد دعما من حكومته وتشجيعا من الجيش أن يرفض النتيجة، وأن يجعل من دعوا للمشاركة مخطئين أمام  من دعوا  للمقاطعة، ولكن أنصف التاريخ من دعوا للمشاركة. هي السياسة بنسبيتها وبتعقيداتها، وهي أكثر من ذلك قلة البدائل أو انعدامها في ظرف ما.
 
في تونس اليوم لا أعلم للرافضين غير  بدائل  تأتي من السماء أو انتظار ثورة شعبية، وهؤلاء يتناسون أن الشعب لا يثور بطلب منهم، وعندما يتحرك لسبب ما  فلا تحركه أحزاب سياسية. لمّا حصلت ثورة 17 ديسمبر- 14 جانفي لم تكن المعارضة  من حركتها.
ثم إن المتعللين بالشرعية لعدم المشاركة في انتخابات تتم في ظل وثيقة انقلابية، وعلى فرض التسليم  بشدة حرصهم  على الشرعية  طيلة مسارهم، يجب أن ينتبهوا  إلى أن الثورة قد تكون مشروعة إذا توفرت جملة من الشروط ولكنها لا تكون عملا شرعيا (مطابقا للقانون)،  بالإضافة إلى ما تتسبب فيه من دماء ومآسي وخلق للعداوات بين أبناء الشعب الواحد.
 
أرجو أن تجتمع الأحزاب والمجتمع المدني وأساتذة القانون وغيرهم ممن تخلف عن تلبية نداء الوطن بعد كثرة ضوضاء عُرفوا بها قبل 25 جويلية، لإعلان موقف موحد يساهم في إخراج البلاد من المأزق وضبط شروط المشاركة وخارطة الطريق الدستورية وأيضا لالتزام الجميع بما في ذلك مؤسسات الدولة بمحاسبة من  احتموا بالسلطة قبل 25 جويلية لارتكاب جرائمهم دون حساب، طبعا بعد تخليص القضاء ممن فرطوا في استقلاليتهم قبل وبعد ذلك التاريخ، وللاتفاق عن موقف سلمي موحد في صورة عدم إجراء الانتخابات أو تدليسها  أو مواصلة ترهيب التونسيين. 
يمكن أيضا أمام انقسام  له مبرراته، ألا يشمل هذا التحرك كل الأطراف الرافضة لحكم العبث الحالي، ولكن أغلبها. لا مشكل، المهم الخروج بموقف واضح.
 
يمكن الاتفاق على مرشح واحد. وإن كان يصعب أن يكون سياسيا، يمكن الاتفاق على شخصية غير سياسية ذات كفاءة عالية، أو ترك أمر توحيد الموقف إلى الدور الثاني للانتخابات.
 
أحداث ثورتنا تواصلت 29 يوما فقط، وعدد شهدائها كان قليلا مقارنة ببقية الثورات في العالم، وخلقنا معا نظاما ديمقراطيا فريدا  في العالم العربي بكثير من العقلانية، ولكنه فشل بفعل جزء منا، لا  لخطأ اجتهادهم، ولا  للموروث السيء، ولا للصراعات الحزبية الواهية أو الجدية،  بل بتعمدهم إفساد البلاد لمصالحهم الخاصة، وفشلنا في إرجاعهم إلى الجادة، وحصل انقلاب أضر بالبلاد واعتقل الكثيرون ظلما وضربت حرية التعبير وضربت مصداقية كل مؤسسات الدولة، وفشلنا في حماية بلادنا وحقوق مواطنيها، وخيبنا أمل الشعوب المقهورة في نجاح  النموذج التونسي.  
 
ألا تكون سنة 2024 سنة رفع رؤوس التونسيين عاليا، ورفع معنوياتهم، وتحسين صورة تونسنا في الخارج، كشعب ومؤسسات قادرين على تجاوز  العراقيل وعلى حل المشاكل بشكل سلمي وعقلاني، وقادرين على العيش في ظل ديمقراطية ودولة قانون وحمايتها؟  الحلول لا تأتي من السماء، ولن تكون يوما سحرية.
 
#لا_للعودة إلى حكم الفساد
لا لمواصلة #حكم_العبث
#نعم_لديمقراطية في إطار دولة قانون

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *